كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِي مُجَارَاةِ الْحُكُومَةِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ لِلْعَوَامِّ عَلَى خُرَافَاتِهِمْ أَنَّ حُكُومَاتِ هَذَا الْعَصْرِ تُوَافِقُ الْعَامَّةَ عَلَى كُلِّ مَا يَعُدُّونَهُ مِنَ الدِّينِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ. كَمَا تَفْعَلُ الْحُكُومَةُ الْمِصْرِيَّةُ فِي بَعْضِ الِاحْتِفَالَاتِ الْمَوْسِمِيَّةِ الْمُبْتَدَعَةِ فِي الْإِسْلَامِ كَالْمَوَالِدِ بِالتَّبَعِ لِجُمْهُورِ الشَّعْبِ مِنْ كِبَارِ عُلَمَائِهِ إِلَى أَجْهَلِ عَوَامِّهِ، وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَعَاصِي الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا الْمَعْلُومَةِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ الَّتِي يُعَدُّ مُسْتَحِلُّهَا مُرْتَدًّا عَنِ الْإِسْلَامِ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ، وَالْجُمْهُورُ غَافِلُونَ عَنْ ضَرَرِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي جُعِلَتْ مِنْ قَبِيلِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ بِالِاحْتِفَالِ بِهَا، وَشَدِّ الرَّحَالِ إِلَيْهَا، وَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ الْعَظِيمَةِ فِي سَبِيلِهَا، وَتَعْطِيلِ كُبْرَى شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ؛ وَهِيَ الصَّلَاةُ، وَإِبْطَالِ دُرُوسِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ مِنَ الْمَسَاجِدِ الَّتِي فِيهَا لِأَجْلِهَا، كَالْمَسْجِدِ الْأَحْمَدِيِّ فِي طَنْطَا، وَالْمَسْجِدِ الْإِبْرَاهِيمِيِّ فِي دُسُوقَ، وَأَنَّ أَكْبَرَ ضَرَرِهَا تَشْوِيهُ الْإِسْلَامِ فِي نَظَرِ الْعُقَلَاءِ مِنْ أُولِي الْعُلُومِ الِاسْتِقْلَالِيَّةِ حَتَّى كَثُرَ فِيهِمُ الْمُرْتَدُّونَ عَنْهُ، وَصَدُّ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ الَّتِي يَجْرِي عَلَيْهَا عُرْفُ الْأُمَمِ أَنَّ دِينَ كُلِّ قَوْمٍ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّعَبُّدَاتِ وَالشَّعَائِرِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ مِنَّا إِقْنَاعُ بَعْضِ مُسْتَقِلِّي الْفِكْرِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ بِحَقِّيَّةِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْمُقَرَّرِ فِي الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ وَالسُّنَّةِ السُّنِّيَّةِ، وَتَنَزُّهِهِ عَنْ هَذِهِ الْبِدَعِ فَاقْتَنَعُوا بِأَنَّ مَا قَرَّرْنَاهُ لَهُمْ حَقٌّ، وَلَمْ يَقْتَنِعُوا بِأَنَّهُ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَقَدْ سَبَقَ أَنْ نَقَلْتُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ فُضَلَاءِ الْإِنْجِلِيزِ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَالَ لِي: إِنْ كَانَ الْإِسْلَامُ مَا ذَكَرْتَ فَأَنَا مُسْلِمٌ، وَكَانَ نَعُوم بِك شَقِير الْمُؤَرِّخُ السُّورِيُّ يَقُولُ لِي: اكْتُبْ عَقِيدَتَكَ، وَأَنَا أَمْضِي عَلَيْهَا بِخَطِّي أَنَّهَا عَقِيدَتِي.
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى عَاقِبَةَ تِلْكَ الْآيَاتِ وَتَأْوِيلَهَا فِي الْمِصْرِيِّينَ، عَطَفَ عَلَيْهِ بَيَانَ عَاقِبَتِهَا وَتَأْوِيلَهَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْجَامِعَةِ الْبَلِيغَةِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا تَعَدَّدَ فِي الْقُرْآنِ التَّعْبِيَرُ عَنِ اسْتِخْلَافِ اللهِ قَوْمًا فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِالْإِيرَاثِ، أَيْ وَأَعْطَيْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ فِي مِصْرَ بِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ جَمِيعَ الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا بِالْخِصْبِ وَالْخَيْرِ الْكَثِيرِ، مَشَارِقُهَا مِنْ حُدُودِ الشَّامِ وَمَغَارِبُهَا مِنْ حُدُودِ مِصْرَ تَحْقِيقًا لِوَعْدِنَا {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} (28: 5، 6).
رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ وَقَتَادَةَ أَنَّهُمَا قَالَا فِي تَفْسِيرِ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا: هِيَ أَرْضُ الشَّامِ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: هِيَ قُرَى الشَّامِ، وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَوْذَبٍ: فَلَسْطِينُ، وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: إِنَّ اللهَ بَارَكَ فِي الشَّامِ مِنَ الْفُرَاتِ إِلَى الْعَرِيشِ، وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} (21: 71) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} (21: 81) وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بَعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} (17: 1).
وَرُوِيَ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهَا أَرْضُ مِصْرَ الَّتِي كَانَ فِيهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَأَطْلَقَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْقَوْلَ بِأَنَّهَا أَرْضُ مِصْرَ وَفَلَسْطِينَ جَمِيعًا، وَرُبَّمَا يَتَرَاءَى أَنَّ إِرَادَةَ أَرْضِ مِصْرَ هِيَ الْظَاهِرُ الْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ مِنْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} (26: 57، 59) وَقَوْلُهُ فِيهِمْ مِنْ سُورَةِ الدُّخَانِ: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} (44: 25- 28) لِأَنَّ فِرْعَوْنَ خَرَجَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمَلَأِ وَالْجُنْدِ مِنْ مِصْرَ وَتَرَكُوا مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، إِلَى الْغَرَقِ الْمُؤَدِّي إِلَى الْجَحِيمِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْوَصْفَ أَظْهَرُ فِي بِلَادِ الشَّامِ ذَاتِ الْجَنَّاتِ الْكَثِيرَةِ، وَالْعُيُونِ الْجَارِيَةِ، وَمَعْنَى إِخْرَاجِ الْمِصْرِيِّينَ مِنْهَا إِزَالَةُ سِيَادَتِهِمْ وَسُلْطَانِهِمْ عَنْهَا، وَحِرْمَانِهِمْ مِنَ التَّفَكُّهِ بِنَعِيمِهَا، فَقَدْ كَانَتْ بِلَادُ فَلَسْطِينَ إِلَى الشَّامِ تَابِعَةً لِمِصْرَ، وَكَانَ مِنْ عَادَةِ فَرَاعِنَةِ مِصْرَ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُسْتَعْمِرَةِ أَنْ يُقِيمُوا فِي الْبِلَادِ الَّتِي يَسْتَوْلُونَ عَلَيْهَا حُكَّامًا وَجُنُودًا لِئَلَّا تَنْتَقِضَ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يَسْكُنَهَا كَثِيرُونَ مِنْهُمْ يَتَمَتَّعُونَ بِخَيْرَاتِهَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ} جُمْلَةً مِنَ الْأَثَرِ الْمِصْرِيِّ الْقَدِيمِ الْوَحِيدِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ ذِكْرٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ تَنْطِقُ بِأَنَّ هَذِهِ الْبِلَادَ كَانَتْ تَابِعَةً لِمِصْرَ.
عَلَى أَنَّهُ وُجِدَ فِي بَعْضِ التَّوَارِيخِ الْقَدِيمَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ بَعْضُ مُفَسِّرِينَا مِنْ أَنَّ مُوسَى اسْتَوْلَى عَلَى مِصْرَ، وَتَمَتَّعَ هُوَ وَقَوْمُهُ بِالسِّيَادَةِ فِيهَا طَائِفَةً مِنَ الزَّمَنِ، نَذْكُرُهُ لِلِاعْتِبَارِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ صِدْقُ الْآيَاتِ غَيْرَ مَقْصُورٍ عَلَى صِحَّةِ مَضْمُونِهِ، وَهُوَ مَا جَاءَ فِي حَاشِيَةٍ لِأَحَدِ مَبَاحِثِ الدُّكْتُورِ مُحَمَّد تَوْفِيق صِدْقِي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كُتُبِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، وَعَقَائِدِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَهَذَا نَصُّهُ (كَمَا فِي ص446، 447 مِنْ مُجَلَّدِ الْمَنَارِ السَّادِسَ عَشَرَ):
جَاءَ فِي كِتَابِ الْأُصُولِ الْبَشَرِيَّةِ صَفْحَةِ 88 لِمُؤَلِّفِهِ لِيَنْجَ أَنَّ يُوسِيفُوسَ الْمُؤَرِّخَ الْيَهُودِيَّ الشَّهِيرَ نَقَلَ عَنْ مَانِيثُونَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الْمِصْرِيَّةَ الْقَدِيمَةَ الَّتِي مُلَخَّصُهَا أَنَّ مُوسَى بَعْدَ أَنْ هَزَمَ فِرْعَوْنَ مِصْرَ- الَّذِي فَرَّ إِلَى بِلَادِ الْحَبَشَةِ- حَكَمَ مِصْرَ 13 سَنَةً، وَبَعْدَ ذَلِكَ عَادَ إِلَى فِرْعَوْنَ هُوَ وَابْنُهُ، وَمَعَهُمَا جَيْشٌ عَظِيمٌ فَقَهَرُوهُ وَأَخْرَجُوهُ مِنْهَا إِلَى بِلَادِ الشَّامِ وَجَاءَ فِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ لِبُوسْتَ مُجَلَّدِ 1ص410 أَنَّ هِيرُودُوتَسَ الْمُؤَرِّخَ الْيُونَانِيَّ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ قَبْلَ الْمِيلَادِ قَالَ: إِنَّ ابْنَ سِيسُوسِتَرْسَ ضُرِبَ بِالْعَمَى مُدَّةَ عَشْرِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهُ رَمَى رُمْحَهُ فِي النَّهْرِ، وَقَدِ ارْتَفَعَتْ أَمْوَاجُهُ وَقْتَ فَيْضِهِ؛ بِسَبَبِ نَوْءٍ شَدِيدٍ إِلَى عُلُوٍّ غَيْرِ اعْتِيَادِيٍّ اهـ، وَيَقُولُ الْمُؤَرِّخُونَ: إِنَّ ابْنَ سِيسُوسِتَرْسَ هَذَا وَهُوَ مِنْفِتَاحُ الثَّانِي هُوَ فِرْعَوْنُ الْخُرُوجِ، وَيَتَّخِذُونَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ إِشَارَةً إِلَى غَرَقِهِ فِي زَمَنِ مُوسَى، لَكِنْ يَرَى الْقَارِئُ مِنْهَا أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ إِشَارَةً إِلَى الْغَرَقِ لَكَانَ الْغَرَقُ فِي النِّيلِ، وَمِنَ الرِّوَايَةِ الْأُولَى يُعْلَمُ أَنَّ مُوسَى حَكَمَ بَعْدَ فِرْعَوْنَ 13 سَنَةً فِي مِصْرَ، وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ هُمَا مِنْ أَقْدَمِ الرِّوَايَاتِ الْمِصْرِيَّةِ وَأَصَحِّهَا، وَرُبَّمَا كَانَتَا الْوَحِيدَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَعَلَّ الْمِصْرِيِّينَ اسْتَغَاثُوا بِمَمْلَكَةِ الْحَبَشَةِ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ جَيْشًا فَأَوْحَى اللهُ إِلَى مُوسَى بِالْخُرُوجِ حِينَئِذٍ مِنْ مِصْرَ، وَتَرْكِهَا لِأَهْلِهَا، وَعَلَيْهِ يَجُوزُ أَنَّ الْمِصْرِيِّينَ كَتَمُوا خَبَرَ غَرَقِ مَلِكِهِمْ، وَاسْتَبْدَلُوا بِهِ دَعْوَى تَقَهْقُرِهِ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ هُوَ الَّذِي عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَخْرَجَ مُوسَى بِالْقُوَّةِ؛ سِتْرًا لِخِزْيِهِمْ وَخِذْلَانِهِمْ، وَإِرْضَاءً لِمُلُوكِهِمْ وَأَسَرَ جَمْعَ أُسُرِهِ بِالضَّمِّ هَؤُلَاءِ الْمُلُوكُ، وَرُبَّمَا أَنَّهُ لَوْلَا عِظَمُ هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَشُهْرَتُهَا بَيْنَهُمْ لَأَنْكَرُوهَا بِالْمَرَّةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْخُرُوجَ لَمْ يَكُنْ عَقِبَ غَرَقِ الْمِصْرِيِّينَ مُبَاشَرَةً كَمَا يُفْهَمُ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَلَمْ يَكُنِ السَّبَبُ فِيهِ هَذِهِ الْحَادِثَةَ الَّتِي غَرَقَ فِيهَا فِرْعَوْنُ وَجَيْشُهُ بَلْ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِبَعْضِ سِنِينَ.
وَيَرَى الْمُطَّلِعُ عَلَى الْقُرْآنِ الشَّرِيفِ أَنَّ هَاتَيْنِ الرُّوَايَتَيْنِ صَادِقَتَانِ فِي مَسْأَلَةِ غَرَقِ فِرْعَوْنَ فِي النِّيلِ، وَمَسْأَلَةِ حُكْمِ مُوسَى فِي مِصْرَ 13 سَنَةً، وَأَمَّا الْغَرَقُ فِي النَّيْلِ فَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الْقُرْآنِ مَثَلًا فِي سُورَةِ طَهَ: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} (20: 38، 39) ثُمَّ قَوْلِهِ فِي آخِرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} فَالْمُتَبَادَرُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ غَرَقَ فِي نَفْسِ الْيَمِّ الَّذِي أُلْقِيَ فِيهِ مُوسَى وَهُوَ النِّيلُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا مَا جَاءَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} (28: 7) ثُمَّ قَوْلُهُ فِيهَا بَعْدُ: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودُهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} (28: 40).
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ حُكْمِ مُوسَى فِي مِصْرَ، وَالتَّمَتُّعِ بِهَا هُوَ وَقَوْمُهُ مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ بَعْدَ الْغَرَقِ فَهُوَ أَيْضًا الْمُتَبَادَرُ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَرَادَ} أَيْ: فِرْعَوْنُ {أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ} (17: 103، 104) وَقَوْلِهِ: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} (26: 57- 59) وَيَجُوزُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ أُعْطِيَتْ لِمُوسَى فِي الطُّورِ قَبْلَ تَرْكِهِ حُكْمَ مِصْرَ.
وَفِي زَمَنِ مُوسَى أَعْطَى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ- بَدَلًا عَنْ مِصْرَ الَّتِي أَمَرَهُمْ بِتَرْكِهَا- الْمَمَالِكَ الَّتِي فِي شَرْقِ الْأُرْدُن كَمَا فِي كُتُبِهِمْ، وَفِي زَمَنِ يَشُوعَ أَعْطَاهُمْ كُلَّ أَرْضِ كَنْعَانَ إِلَّا بَعْضَ أَجْزَاءٍ مِنْهَا (يش 13: 1) وَهَذِهِ الْأَرْضُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَهُمْ هِيَ مِنْ أَخْصَبِ أَرَاضِي الْعَالَمِ وَأَحْسَنِهَا، وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ عِنْدَهُمْ بِأَرْضِ الْمَوْعِدِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا وُعِدُوا بِهَا مِنْ قَبْلُ.
فَأَنَّى لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عِلْمُ مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ ذَلِكَ التَّارِيخِ، وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ وَعَنْ قَوْمِهِ؟ وَمُغَايِرٌ لِلتَّوْرَاةِ، وَمُخَالِفٌ لِمَا يَعْتَقِدُهُ جَمِيعُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ، وَلَكِنَّهُ مُوَافِقٌ لِأَقْدَمِ الرِّوَايَاتِ الْمِصْرِيَّةِ وَأَصَحِّهَا الَّتِي لَا يَعْرِفُهَا- حَتَّى الْآنَ- إِلَّا وَاسِعُو الِاطِّلَاعِ مِنْ مُحَقِّقِي الْمُؤَرِّخِينَ؟
وَأَمَّا مَانِيثُو Manetho الْمَذْكُورُ هُنَا الَّذِي وَافَقَتْ رِوَايَتُهُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الشَّرِيفِ، فَكَانَ كَاهِنًا لِمَعْبَدٍ مِنْ أَقْدَمِ الْمَعَابِدِ وَأَشْهَرِهَا، وَقَدْ كَتَبَ تَارِيخَ مِصْرَ بِأَمْرِ بَطْلَيْمُوسَ فِيلَادَلْفُوسَ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَكَانَ مِنْ أَدَقِّ مُؤَرِّخِي الْقُدَمَاءِ وَأَصْدَقِهِمْ، وَقَدْ أَخَذَ بِأَوْثَقِ الْمَصَادِرِ وَأَصَحِّهَا فِي كِتَابَةِ تَارِيخِهِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا التَّارِيخَ فُقِدَ مَعَ مَا فُقِدَ فِي حَرِيقِ مَكْتَبَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ سِوَى مُقْتَطَفَاتٍ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ الْيُونَانِيَّةِ، وَقَدْ أَيَّدَ أَكْثَرُ هَذِهِ الْمُقْتَطَفَاتِ مَا اكْتُشِفَ حَدِيثًا مِنَ الْآثَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَالْمَكْتُوبَاتِ الْعَتِيقَةِ مَعَ أَنَّ آبَاءَ النَّصْرَانِيَّةِ كِيُوسِيبْيُوسَ حَرَّفُوا كَعَادَتِهِمْ كَثِيرًا مِمَّا نَقَلُوهُ مِنْهَا لِتُطَابِقَ نُصُوصَ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ كَمَا ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ لِيَنْجُ فِي كِتَابِهِ الْأُصُولِ الْبَشَرِيَّةِ ص11 مِنْهُ اهـ.
{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} تَمَامُ الشَّيْءِ: وُصُولُهُ إِلَى آخِرِ حَدِّهِ، وَكَلِمَةُ اللهِ: وَعْدُهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِإِهْلَاكِ عَدُوِّهِمْ، وَاسْتِخْلَافِهِمْ فِي الْأَرْضِ. فِي مَجَازِ الْأَسَاسِ، وَتَمَّ عَلَى أَمْرٍ: مَضَى عَلَيْهِ، وَتَمَّ عَلَى أَمْرِكَ، وَتَمَّ إِلَى مَقْصِدِكَ، وَالْمَعْنَى: نَفَذَتْ كَلِمَةُ اللهِ، وَمَضَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ تَامَّةً كَامِلَةً؛ بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ عَلَى الشَّدَائِدِ الَّتِي كَابَدُوهَا مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، إِذْ كَانَ وَعْدُ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِمَا وَعَدَهُمْ مَقْرُونًا بِأَمْرِهِمْ بِالصَّبْرِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَالتَّقْوَى لَهُ كَمَا أَمَرَهُمْ نَبِيُّهُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَبْلِيغًا عَنْهُ تَعَالَى. رَاجِعْ: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا} الْآيَةَ، مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، وَإِذْ كَانَ قَدْ تَمَّ وَعْدُ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ بِذَلِكَ ثُمَّ سَلَبَهُمُ اللهُ تِلْكَ الْأَرْضَ بِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ مُقْتَضَى الْوَعْدِ أَنْ يَعُودُوا إِلَيْهَا مَرَّةً أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَمَّ، وَنَفَذَ صِدْقًا وَعَدْلًا.
وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ التَّدْمِيرُ: إِدْخَالُ الْهَلَاكِ عَلَى السَّالِمِ وَالْخَرَابِ عَلَى الْعَامِرِ، الْعَرْشُ: رَفْعُ الْمَبَانِي وَالسَّقَائِفِ لِلنَّبَاتِ وَالشَّجَرِ الْمُتَسَلِّقِ كَعَرَائِشِ الْعِنَبِ، وَمِنْهُ عَرْشُ الْمَلِكِ، وَالْمُرَادُ بِمَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ أَوَّلًا، وَبِالذَّاتِ مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِظُلْمِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَيْدِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَالْأَوَّلُ كَالْمَبَانِي الَّتِي كَانُوا يَبْنُونَهَا لِلْمِصْرِيِّينَ أَوْ يَصْنَعُونَ اللَّبَنَ لَهَا، وَمِنْهَا الصَّرْحُ الَّذِي أُمِرَ هَامَانُ بِبِنَائِهِ؛ لِيَرْقَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ فَيَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى، وَالثَّانِي: كَالْمَكَايِدِ السِّحْرِيَّةِ وَالصِّنَاعِيَّةِ الَّتِي كَانَ يَصْنَعُهَا السَّحَرَةُ؛ لِإِبْطَالِ آيَاتِهِ أَوِ التَّشْكِيكِ فِيهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} (20: 69) {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لِأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمِلَهُ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} (40: 36، 37) وَالتَّبَابُ بِمَعْنَى الدَّمَارِ.
وَأَمَّا أَسْبَابُ هَذَا التَّدْمِيرِ لِذَلِكَ الصُّنْعِ وَالْعُرُوشِ فَأَوَّلُهَا: الْآيَاتُ الَّتِي أَيَّدَ اللهُ تَعَالَى بِهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الطُّوفَانِ وَالْجَرَادِ وَغَيْرِهَا-، وَتُسَمَّى فِي التَّوْرَاةِ الضَّرَبَاتِ، وَفِيهَا مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي ضَرَرِهَا وَتَخْرِيبِهَا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ، وَذَكَرْنَا بَعْضَهُ- وَيَلِيهَا: إِنْجَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَحِرْمَانُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ مِنَ اسْتِعْبَادِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَثَالِثُهَا: هَلَاكُ مَنْ غَرَقَ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَحِرْمَانُ الْبِلَادِ وَسَائِرِ الْأُمَّةِ مِنْ ثَمَرَاتِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعُمْرَانِ، هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْهَا، وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، فَقَدْ أَنْذَرَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كُلَّ ذَلِكَ لِيَتَّقُوا سُوءَ عَاقَبَتِهِ فَكَذَّبُوا بِالْآيَاتِ، وَأَصَرُّوا عَلَى الْجُحُودِ وَالْإِعْنَاتِ.